فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)}.
{قَالَ} فرعون لهم {نِعْمَ} لكم ذلك {وَإِنَّكُمْ} مع ذلك {إِذًا لَّمِنَ المقربين} عندي، قيل: قال لهم: تكونون أول من يدخل على وآخر من يخرج عني.
و{أَذِنَ} عند جمع على ما تقتضيه في المشهور من الجواب والجزاء، ونقل الزركشي في البرهان عن بعض المتأخرين أنها هنا مركبة من {إِذَا} التي هي ظرف زمان ماض والتنوين الذي هو عوض عن جملة محذوفة بعدها وليست هي الناصبة للمضارع.
وقد ذهب إلى ذلك في نظير لآية الكافيجي والقاضي تقي الدين بن رزين وأنا ممن يقول بإثبات هذا المعني لها والمعنى عليه وإنكم إذا غلبتم أو إذا كنتم العالبين لمن المقربين.
وقرىء {نِعْمَ} بفتح النون وكسر العين وذلك لغة في {نِعْمَ}.
{قَالَ لَهُمْ موسى} أي بعد ما قال له السحرة: {إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى} [طه: 65] {أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ} لم يرد عليه السلام الأمر بالسحر والتمويه حقيقة فإن السحر حرام وقد يكون كفرًا فلا يليق بالمعصوم الأمر به بل الإذن بتقديم ما علم بالهام أو فراسة صادقة أو قرائن الحال أنهم فاعلوه البتة ولذا قال: {مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ} ليتوصل بذلك إلى إبطاله.
وهذا كما يؤمر الزنديق بتقرير حجته لترد وليس في ذلك الرضا الممتنع فإنه الرضا على طريق الاستحسان وليس في الإذن المذكور ومطلق الرضا غير ممتنع، وما اشتهر من قولهم: الرضا بالكفر كفر ليس على إطلاقه كما عليه المحققون من الفقهاء والأصوليين.
{فَأَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ} أي وقد قالوا عند الالقاء {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ} أي بقوته التي يمتنع بها من الضيم من قولهم: أرض عزاز أي صلبة {إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} لا موسى عليه السلام، والظاهر أن هذا قسم منهم بعزته عليه اللعنة على الغلبة وخصوها بالقسم هنا لمناسبتها للغلبة وقسمهم على ذلك لفرط اعتقادهم في أنفسهم وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر.
وفي ذلك إرهاب لموسى عليه السلام بزعمهم، وعدلوا عن الخطاب إلى الغيبة في قولهم {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ} تعظيمًا له، وهذا القسم من نوع أقسام الجاهلية، وقد سلك كثير من المسلمين في الإيمان ما هو أشنع من أيمانهم لا يرضون بالقسم بالله تعالى وصفاته عز وجل ولا يعتدون بذلك حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان أو برأسه أو برأس المحلف أو بلحيته أو بتراب قبر أبيه حفينئذ يستوثق منه، ولهم أشياء يعظونها ويحلفون بها غير ذلك، ولا يبعد أن يكون الحلف بالله تعالى كذبًا أقل إثمًا من الحلف بها صدقًا وهذا مما عمت به البلوى ولا حوال ولا قوة إلا بالله تعالى العلي العظيم، وقال ابن عطية بعد أن ذكر أنه قسم: والأحرى أن يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه إذا كانوا يعبدونه كما تقول: إذا ابتدأت بشيء بسم الله تعالى وعلى بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41)}.
تقدم نظيرها في سورة الأعراف بقوله: {وجاء السحرة} [الأعراف: 113] وبطرح همزة الاستفهام إذ قال هناك {إنَّ لنا لأجرًا} [الأعراف: 113]، وهو تفنن في حكاية مقالتهم عند إعادتها لئلا تعاد كما هي، وبدون كلمة {إذًا}، فحكى هنا ما في كلام فرعون من دلالة على جزاءِ مضموننِ قولهم: {إنَّ لنا لأجرًا إن كنا نحن الغالبين} [الأعراف: 113] زيادة على ما اقتضاه حرف نعم من تقرير استفهامهم عن الأجر.
فتقدير الكلام: إن كنتم غالبين إذًا إنكم لمن المقربين.
وهذا وقع الاستغناء عنه في سورة الأعراف فهو زيادة في حكاية القصة هنا.
وكذلك شأن القرآن في قصصه أن لا يخلو المُعاد منها عن فائدة غير مذكورة في موضع آخر منه تجديدًا لنشاط السامع كما تقدم في المقدمة السابعة من مقدمات هذا التفسير.
وسؤالهم عن استحقاق الأجر إدلال بخِبرتهم وبالحاجة إليهم إذ علموا أن فرعون شديد الحرص على أن يكونوا غالبين وخافوا أن يُسَخِّرهم فرعون بدون أجر فشرطوا أجرهم من قبل الشروع في العمل ليقيدوه بوعده.
{قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)}.
حُكي كلام موسى في ذلك الجمع بإعادة فعل {قال} مفصولًا بطريقة حكاية المحاورات لأنه كان المقصود بالمحاورة إذ هم حضروا لأجله.
ووقع في سورة الأعراف (115) {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن المُلْقين قال ألقُوا واختصر هنا تخييرهم موسى في الابتداء بالأعمال وقد تقدم بيانه هناك فقول موسى لهم ألقوا} المحكي هنا هو أمر لمجرد كونهم المبتدئين بالإلقاء لتعقبه إبطال سِحرهم بما سيلقيه موسى، كما يقول صاحب الجدل في علم الكلام للملحد: قرر شبهتك، وهو يريد أن يدحضها له.
وهذا عضد الدين في كتاب المواقف يذكر شُبه أهل الزيغ والضلال قبل ذكر الأدلة الناقضة لها.
وتقدم الإلقاء آنفًا.
وذكر هنا مفعول {ألقوا} واختصر في سورة الأعراف.
وفي كلام موسى عليه السلام استخفاف بما سيلقونه لأنه عبر عنه بصيغة العموم، أي ما تستطيعون إلقاءه.
وتقدم الكلام على الحِبال والعِصيّ في السحر عند الكلام على مثل هذه القصة في سورة طه.
وقرنت حكاية قَول السحرة بالواو خلافًا للحكايات التي سبقتها لأن هذا قول لم يقصد به المحاورة وإنما هو قول ابتدؤا به عند الشروع في السحر استعانة وتيمّنًا بعزة فرعون.
فالباء في قولهم {بعزة فرعون} كالباء في {بسم الله} أرادوا التيمن بقدرة فرعون، قاله ابن عطية.
وقيل الباء للقسم: أقسموا بعزة فرعون على أنهم يغلبون ثقة منهم باعتقاد ضلالهم أن إرادة فرعون لا يغلبها أحد لأنها إرادة آلهتهم.
وهذا الذي نحاه المفسرون، والوجه الأول أحسن لأن الجملتين على مقتضاه تفيدان فائدتين.
والعزّة: القدرة، وتقدم في قوله: {أخذته العزّة بالإثم} في سورة البقرة (206).
وجملة: {إنا لنحن الغالبون} استئناف إنشاء عن قولهم: {بعزة فرعون}: كأن السامع وهو موسى أو غيره يقول في نفسه: ماذا يُؤثر قولهم {بعزة فرعون}؟ فيقولون: {إنا لنحن الغالبون}، وأرادوا بذلك إلقاء الخوف في نفس موسى ليكون ما سيلقيه في نوبته عن خور نفس لأنهم يعلمون أن العزيمة من أكبر أسباب نجاح السحر وتأثيره على الناظرين.
وقد أفادت جملة: {إنا لنحن الغالبون} بما فيها من المؤكدات مُفاد القسم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41)}.
فانظر إلى مسيرة الإله فرعون في رعيته، فالإله الحق يُطْعِم ولا يُطْعم، ويجير ولا يُجَار عليه، الإله الحق يُعطي ولا يأخذ، ولما اجتمع السحرة وهم أبطال هذه المباراة، ويعلمون مدى حاجة فرعون إليهم في هذا الموقف؛ لذلك بادروا بالاتفاق معه والاشتراط عليه: إنْ كنت تُسخِّر الناس في خدتمك دون أجر، فهذه المسألة تختلف، ولن تمر هكذا دون أجر.
وهذا دليل على معرفتهم بفرعون، وأنه رجل أَكَلْتى، لذلك اشترطوا عليه أجرًا إنْ كانوا هم الغالبين، ولا ندري فربما جاء آخر يهدد هذه الألوهية، فنحن ندخركم لمثل هذا الموقف.
{قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)}.
هنا يتنازل فرعون عن تعاليه وكبريائه ويذعن لشروط سَحرته، بل ويزيدهم فوق ما طلبوا {وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ المقربين} [الشعراء: 42] فسوف تكونون من خاصتنا، نستعين بكم في مثل هذه الأمور، ولا نستغني عنكم؛ لأنكم الذين حافظتم على باطل ألوهيتنا.
{قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)}.
هنا كلام محذوف، نعرفه من سياق القصة؛ لأن الآية السابقة كان الكلام ما يزال بين فرعون والسحرة، والقرآن يحذف بعض الأحداث اعتمادًا على فِطْنة السامع أو القارىء، كما قلنا في قصة الهدهد مع سيدنا سليمان، حيث قال له: {اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28].
ثم قال بعدها: {قَالَتْ يا أيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] وحذف ما بين هذين الحدثيْن مما نعلمه نحن من السياق.
وقوله: {أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} [الشعراء: 43] هذه هي الغاية التي انتهى إليها بعد المحاورة مع السحرة.
{فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)}.
فكانت العصىّ والحبال هي آلات سحرهم {وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} [الشعراء: 44] بعزة فرعون: هذا قسمهم، وما أخيبه من قسم؛ لأن فرعون لا يُغلَب ولا يُقهر في نظرهم، وسبق أن أوضحنا أن العزة تعني عدم القهر وعدم الغلبة، لكن عزة فرعون عزة كاذبة وأنفة وكبرياء بلا رصيد من حق، وعزة بالإثم كالتي قال الله عنها: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} [البقرة: 206].
وقال تعالى: {ص والقرآن ذِي الذكر بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 12] أي: عزة بإثم، وعزة بباطل.
ومنه أيضًا قوله تعالى عن المنافقين: {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} [المنافقون: 8] فصدّق القرآن على قولهم بأن الأعزَّ سيُخرج الأذلّ، لكن {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
وما دام الأمر كذلك فأنتم الأذّلة، وأنتم الخارجون، وقد كان.
ويقال: إن أدوات سحرهم وهي العصيّ والحبال كانت مُجوفة وقد ملئوها بالزئبق، فلما ألقوها في ضوء الشمس وحرارتها أخذتْ تتلاعب، كأنها تتحرك، وهذا من حيل السَّحَرة وألاعيبهم التي تُخيِّل للأعين وهي غير حقيقية، فحقيقة الشيء ثابتة، أمّا المسحور فيخيل إليه أنها تتحرك. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)}.
قوله: {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ}: يجوزُ أن يكون قَسَمًا، وجوابُه: {إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون}. ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ أي: نَغْلِبُ بسببِ عزَّتِه، يَدُلُّ عليه ما بعدَه، ولا يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب {الغالبون} لأنَّ ما في حَيِّز إنَّ لا يتقدم عليها. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)}.
قال فرعون: {وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}، ومَنْ طَلَبَ القربةَ عند مخلوقٍ فإنَّ ما يصل إليه من الذُّلِّ يزيد على ما أمَّله من العِزِّ في ذلك التَقَرُّب. والمُقَرَّبون من الله أوَّلُ من يدخل عليه يومَ اللقاء، فهم أولُ مَنْ لهم وصولٌ. والمُقَرُّبون من الله لهم على الله دَخْلَة، والناسُ بوصف الغفلة والخَلْقُ في أسْرِ الحجبة.
ثم لمَّا اجتمع الناسُ، وجاء السَّحَرةُ بما مَوَّهُوا، التقَمَتْ عصا موسى جميعَ ما أتوا به، وعادت عصًا، وتلاشت أعيانُ حِبَالهم التي جاءوا بها، وكانت أوقارًا، وألْقِيَ السحرةُ سُجَّدًا، ولم يحتفلوا بتهديد فرعون إياهم بالقَتْل والصَّلْب والقَطْع، فأصبحوا وهم يُقْسِمُون بعِزَّة فرعون، ولم يُمْسُوا حتى كانوا يقولون: {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه: 72].
ثم لمَّا ساعَدَهم التوفيقُ، وآمنوا بالله كان أهمَّ أمورهم الاستغفارُ لِمَا سَلَفَ من ذنوبهم، وهذه هي غاية هِمَّةِ الأولياء، أن يستجيروا بالله، وأن يستعيذوا من عقوبة الله، فأعْرَفُهُم بالله أخْوَفُهُم مِنَ الله.
ولمَّا أَمَرَ اللَّهُ موسى بإخراج بني إسرائيل، وتَبِعَهم فرعونُ بجَمْعِه. اهـ.